فصل: (سورة الصفّ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره» ومذهب الشافعي على ما قيل‏:‏ إنه لا تقع الفرقة إلا بإسلامها، وأما بمجرد الخروج فلا فان أسلمت قبل الدخول تنجزت الفرقة وبعد الدخول توقفت إلى انقضاء العدة، وتعقب الاحتجاج بأن الآية لا تدل على مجموع ما ذكر، نعم قد احتج بها على عدم العدة في الفرقة بخروج المرأة إلينا من دار الحرب مسلمة، ووجه بأنه سبحانه نفى الجناح من كل وجه في نكاح المهاجرات بعد إيتاء المهر، ولم يقيد جل شأنه بمضي العدة فلولا أن الفرقة بمجرد الوصول إلى دار الإسلام لكان الجناح ثابتاً، ومع هذا فقد قيل‏:‏ الجواب على أصل الشافعية أن رفع الإطلاق ليس بنسخ ظاهر لأن عدم التعرض ليس تعرضاً للعدم، وأما على أصل الحنفية فكسائر الموانع، وكونها حاملاً بالاتفاق فتأمل ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر‏}‏ جمع كافرة، وجمع فاعلة على فواعل مطرد وهو وصف جماعة الإناث، وقال الكرخي‏:‏ ‏{‏الكوافر‏}‏ يشمل الإناث والذكور، فقال له الفارسي‏:‏ النحويون لا يرون هذا إلا في الإناث جمع كافرة، فقال‏:‏ أليس يقال‏:‏ طائفة كافرة وفرقة كافرة، قال الفارسي‏:‏ فبهت، وفيه أنه لا يقال‏:‏ كافرة في وصف الذكور إلا تابعاً للموصوف، أو يكون محذوفاً مراداً أما بغير ذلك فلا تجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث قاله أبو حيان، وعصم جمع عصمة وهي ما يعتصم به من عقد وسبب، والمراد نهي المؤمنين عن أن يكون بينهم وبين الزوجات المشركات الباقية في دار الحرب علقة من علق الزوجية أصلاً حتى لا يمنع إحداهن نكاح خامسة أو نكاح أختها في العدة بناءاً على أنه لا عدة لهن؛ قال ابن عباس‏:‏ من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه، وأخرج سعيد بن منصور‏.‏ وابن المنذر عن إبراهيم النخعي أنه قال‏:‏ نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُمْسِكُواْ‏}‏ الخ في المرأة من المسلمين تلحق بالمشركين فلا يمسك زوجها بعصمتها قد برىء منها‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد‏.‏ وسعيد بن جبير نحوه، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قال‏:‏ أمرهم سبحانه بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه طلق لذلك امرأته فاطمة أخت أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وامرأته كلثوم بنت جرول الخزاعي فتزوجها أبو جهم بن حذيفة العدوي، وكذا طلق طلحة زوجته أروى بنت ربيعة، وتعقب ذلك بأنه بظاهره مخالف لمذهب الحنفية‏.‏ والشافعية، أما عند الحنفية فلأن الفرقة بنفس الوصول إلى دار الإسلام، وأما عند الشافعية فلأن الطلاق موقوف إن جمعتهما العدة تبين وقوعه من حيث اللفظ، وإلا فالبينونة بواسطة بقاء المرأة في الكفر، فظاهر الآية لا يدل على ما في هذه الرواية، وقرأ أبو عمرو‏.‏

ومجاهد بخلاف عنه‏.‏ وابن جبير‏.‏ والحسن‏.‏ والأعرج ‏{‏تُمْسِكُواْ‏}‏ مضارع مسك مشدداً، والحسن أيضاً‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وابن عامر في رواية عبد الحميد‏.‏ وأبو عمرو في رواية معاذ ‏{‏تُمْسِكُواْ‏}‏ مضارع تمسك محذوف إحدى التاءين، والأصل تتمسكوا‏.‏

وقرأ الحسن أيضاً ‏{‏تُمْسِكُواْ‏}‏ بكسر السين مضارع مسك ثلاثياً ‏{‏قُلْ مَا أَنفَقْتُم‏}‏ أي واسألوا الكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم ‏{‏وَلْيَسْئَلُواْ مَا أَنفَقُواْ‏}‏ أي وليسألكم الكفار مهور نسائهم المهاجرات إليكم، وظاهره أمر الكفار، وهو من باب ‏{‏وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 123‏]‏ فهو أمر للمؤمنين بالأداء مجازاً، وقيل‏:‏ المراد التسوية ‏{‏ذلكم‏}‏ الذي ذكر ‏{‏حُكْمُ الله‏}‏ أي فاتبعوه، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ كلام مستأنف أو حال من ‏{‏حُكْمُ‏}‏ بحذف الضمير العائد إليه، وهو مفعول مطلق أي يحكمه الله تعالى بينكم، أو العائد إليه الضمير المستتر في ‏{‏يُحْكِمُ‏}‏ بجعل الحكم حاكماً مبالغة كأن الحكم لقوته وظهوره غير محتاج لحاكم آخر ‏{‏والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة، روي أنه لما تقرر هذا الحكم أدى المؤمنون مما أمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئاً من مهور الكوافر إلى أزواجهن المؤمنين فنزل قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن فَاتَكُمْ‏}‏ أي سبقكم وانفلت منكم ‏{‏شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار‏}‏ أي أحد من أزواجكم، وقرىء كذلك، وإيقاع ‏{‏شَىْء‏}‏ موقعه لزيادة التعميم وشمول محقر الجنس نصاً، وفي «الكشف» لك أن تقول‏:‏ أريد التحقير والتهوين على المسلمين لأن من فات من أزواجهم إلى الكفار يستحق الهون والهوان، وكانت الفائتات ستاً على ما نقله في «الكشاف» وفصله، أو إن ‏{‏فَاتَكُمْ شَىْء‏}‏ من مهور أزواجكم على أن ‏{‏شَىْء‏}‏ مستعمل في غير العقلاء حقيقة، و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية لا بيانية كما في الوجه الأول ‏{‏فعاقبتم‏}‏ من العقبة لا من العقاب، وهي في الأصل النوبة في ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، أو شبه الحكم بالأداء المذكور بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب، وحاصل المعنى إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار أو فاتكم شيء من مهورهن ولزمكم أداء المهر كما لزم الكفار‏.‏

‏{‏فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ‏}‏ من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ولا تؤتوه زوجها الكافر ليكون قصاصاً، ويعلم مما ذكرنا أن عاقب لا يقتضي المشاركة، وهذا كما تقول‏:‏ إبل معاقبة ترعى الحمض تارة وغيره أخرى ولا تريد أنها تعاقب غيرها من الإبل في ذلك، وحمل الآية على هذا المعنى يوافق ما روي عن الزهري أنه قال‏:‏ يعطي من لحقت زوجته بالكفار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجاتهم‏.‏

وعن الزجاج أن معنى ‏{‏فعاقبتم‏}‏ فغنمتم، وحقيقته فأصبتم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فكأنه قيل‏:‏ ‏{‏وَإِن فَاتَكُمْ شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار‏}‏ ولم يؤدوا إليكم مهورهن فغنمتم منهم ‏{‏فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ‏}‏ من الغنيمة وهذا هو الوجه دون ما سبق، وقد كان صلى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمس المهر ولا ينقص من حقه شيئاً، وقال ابن جني‏:‏ روينا عن قطرب أنه قال‏:‏ ‏{‏فعاقبتم‏}‏ فأصبتم عقباً منهم يقال‏:‏ عاقب الرجل شيئاً إذا أخذ شيئاً وهو في المعنى كالوجه قبله‏.‏

وقرأ مجاهد‏.‏ والزهري‏.‏ والأعرج‏.‏ وعكرمة‏.‏ وحميد‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ والزعفراني فعقبتم بتشديد القاف من عقبه إذا قفاه لأن كل واحد من المتعاقبين يقفى صاحبه، والزهري‏.‏ والأعرج‏.‏ وأبو حيوة أيضاً‏.‏ والنخعي‏.‏ وابن وثاب بخلاف عنه فعقبتم بفتح القاف وتخفيفها، والزهري‏.‏ والنخعي أيضاً بالكسر والتخفيف، ومجاهد أيضاً فأعقبتم أي دخلتم في العقبة؛ وفسر الزجاج هذه القراآت الأربعة بأن المعنى فكانت العقبى لكم أي الغلبة والنصر حتى غنمتم لأنها العاقبة التي تستحق أن تسمى عاقبة ‏{‏واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ فإن الإيمان به عز وجل يقتضي التقوى منه سبحانه وتعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏مُؤْمِنُونَ يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ‏}‏ أي مبايعات لك أي قاصدات للمبايعة ‏{‏على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً‏}‏ أي شيئاً من الأشياء أو شيئاً من الإشراك ‏{‏وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن‏}‏ أريد به على ما قال غير واحد‏:‏ وأد البنات بالقرينة الخارجية، وإن كان الأولاد أعم منهن، وجوز إبقاءه على ظاهره فإن العرب كانت تفعل ذلك من أجل الفقر والفاقة، وانظر هل يجوز حمل هذا النهي على ما يعم ذلك، وإسقاط الحمل بعد أن ينفخ فيه الروح، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ والحسن‏.‏ والسلمي ‏{‏وَلاَ يَقْتُلْنَ‏}‏ بالتشديد ‏{‏وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ‏}‏‏.‏

قال الفراء‏:‏ كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول‏:‏ هذا وليد منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وفي «الكشاف» كني بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين، وقيل‏:‏ كني بذلك عن الولد الدعي لأن اللواتي كن يظهرن البطون لأزواجهن في بدء الحال إنما فعلن ذلك امتناناً عليهم، وكن يبدين في ثاني الحال عند الطلق حين يضعن الحمل بين أرجلهن أنهن ولدن لهم فنهين عن ذلك الذي هو من شعار الجاهلية المنافي لشعار المسلمات تصويراً لتينك الحالتين وتهجيناً لما كن يفعلنه، وأياً مّا كان فحمل الآية على ما ذكر هو الذي ذهب إليه الأكثرون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعض الأجلة‏:‏ معناه لا يأتين ببهتان من قبل أنفسهن، واليد والرجل كناية عن الذات لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية‏:‏ هذا ما كسبت يداك، أو معناه لا يأتين ببهتان ينشئنه في ضمائرهن وقلوبهن، والقلب مقره بين الأيدي والأرجل، والكلام على الأول‏:‏ كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهن، وعلى الثاني‏:‏ كناية عن كون البهتان من دخيلة قلوبهن المبنية على الخبث الباطني‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ معناه لا يبهتن الناس كفاحاً ومواجهة كما يقال للأمر بحضرتك‏:‏ إنه بين يديك، ورد بأنهم وإن كنوا عن الحاضر بما ذكر لكن لا يقال فيه‏:‏ هو بين رجليك، وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها أما إذا ذكرت مع الأيدي تبعاً فلا، والكلام قيل‏:‏ كناية عن خرق جلباب الحياء، والمراد النهي عن القذف، ويدخل فيه الكذب والغيبة، وروي عن الضحاك حمل ذلك على القذف، وقيل‏:‏ بين أيديهن قبلة أو جسة وأرجلهن الجماع، وقيل‏:‏ بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، وأرجلهن فروجهن بالجماع، وهو وكذا ما قبله كما ترى‏.‏

وقيل‏:‏ البهتان السحر، وللنساء ميل إليه جداً فنهين عنه وليس بشيء ‏{‏وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ‏}‏ أي فيما تأمرهن به من معروف وتنهاهن عنه من منكر، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، ويرد به على من زعم من الجهلة أن طاعة أولى الأمر لازمة مطلقاً، وخص بعضهم هذا المعروف بترك النياحة لما أخرج الإمام أحمد‏.‏ والترمذي وحسنه‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وغيرهم عن أم سلمة الأنصارية قالت امرأة من هذه النسوة‏:‏ ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تنحن» الحديث، ونحوه من الأخبار الظاهرة في تخصيصه بما ذكر كثير، والحق العموم، وما ذكر في الأخبار من باب الاقتصار على بعض أفراد العام لنكتة، ويشهد للعموم قول ابن عباس‏.‏ وأنس‏.‏ وزيد بن أسلم‏:‏ هو النوح‏.‏ وشق الجيوب‏.‏ ووشم الوجوه‏.‏ ووصل الشعر‏.‏ وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها، وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهنّ لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن على ما سمعت أولا ‏{‏فَبَايِعْهُنَّ‏}‏ بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء، وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كما الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها ‏{‏واستغفر لَهُنَّ الله‏}‏ زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي مبالغ جل شأنه في المغفرة والرحمة فيغفر عز وجل لهن ويرحمهن إذا وفين بما باعن عليه؛ وهذه الآية نزلت على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل يوم الفتح فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا‏.‏ وعمر رضي الله تعالى عنه يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام بايع أيضاً بنفسه الكريمة‏.‏

أخرج الإمام أحمد‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والترمذي وصحهه‏.‏ وغيرهم عن أميمة بنت رقية قالت‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لنبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئاً حتى بلغ ‏{‏وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ‏}‏ فقال‏:‏ «فيما استطعن وأطقن قلنا‏:‏ الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا‏؟‏ قال‏:‏ إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة»‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور‏.‏ وابن سعد عن الشعبي قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء وضع على يده ثوباً؛ وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم يبايعهن وبين يديه وأيديهن ثوب قطوى، ومن يثبت ذلك يقول بالمصافحة وقت المبايعة، والأشهر المعول عليه أن لا مصافحة، أخرج ابن سعد‏.‏

وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم يغمس أيديهن فيه؛ وكأن هذا بدل المصافحة والله تعالى أعلم بصحته‏.‏

والمبايعة وقعت غير مرة ووقعت في مكة بعد الفتح وفي المدينة؛ وممن بايعنه عليه الصلاة والسلام في مكة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، ففي حديث أسماء بنت يزيد بن السكن كنت في النسوة المبايعات وكانت هند بنت عتبة في النساء فقرأ صلى الله عليه وسلم عليهن الآية فلما قال‏:‏ ‏{‏على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً‏}‏ قالت هند‏:‏ وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال‏؟‏ يعني أن هذا بين لزومه فلماقال ‏{‏وَلاَ يَسْرِقْنَ‏}‏ قالت‏:‏ والله إني لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل لي ذلك‏؟‏ فقال أبو سفيان‏:‏ ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر هو لك حلال؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها‏:‏ وإنك لهند بنت عتبة‏؟‏ قالت‏:‏ نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فقال‏:‏ ولا ‏{‏يَزْنِينَ‏}‏ فقالت‏:‏ أو تزني الحرة‏؟‏ تريد أن الزنا في الإماء بناءاً على ما كان في الجاهلية من أن الحرة لا تزني غالباً وإنما يزني في الغالب الإماء، وإنما قيد بالغالب لما قيل‏:‏ إن ذوات الريات كن حرائر، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن‏}‏ فقالت‏:‏ ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً تعني ما كان من أمر ابنها حنظلة بن أبي سفيان فإنه قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أنها قالت‏:‏ قتلت الآباء وتوصينا بالأولاد‏؟‏ا فضحك صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان‏}‏ فقالت‏:‏ والله إن البهتان لأمر قبيح ولا يأمر الله تعالى إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ‏}‏ فقالت‏:‏ والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وكأن هذا منها دون غيرها من النساء لمكان أم حبيبة رضي الله تعالى عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنها حديثة عهد بجاهلية، ويروى أن أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم من النساء أم سعد بن معاذ‏.‏ وكبشة بنت رافع مع نسوة أخر رضي الله تعالى عنهن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ عن الحسن‏.‏ وابن زيد‏.‏ ومنذر بن سعيد أنهم اليهود لأنه عز وجل قد عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم، وروي أن قوماً من فقراء المؤمنين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنزلت، وقيل‏:‏ هم اليهود والنصارى، وفي رواية عن ابن عباس أنهم كفار قريش، وقال غير واحد‏:‏ هم عامة الكفرة؛ وهذه الآية على ما قال الطيبي‏:‏ متصلة بخاتمة قصة المشركين الذين نهى المؤمنون عن اتخاذهم أولياء بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ وهي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 9‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الظالمون ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ الخ مستطرد فإنه لما جرى حديث المعاملة مع الذين لا يقاتلون المسلمين والذين يقاتلونهم وقد أخرجوهم من ديارهم من الأمر بمبرة أولئك والنهي عن مبرة هؤلاء أتى بحديث المعاملة مع نسائهم، ولما فرغ من ذلك أوصل الخاتمة بالفاتحة على منوال رد العجز على الصدر من حيث المعنى، وفي الانتصاف جعل هذه الآية نفسها من باب الاستطراد وهو ظاهر على القول‏:‏ بأن المراد بالقوم اليهود أو أهل الكتاب مطلقاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاخرة‏}‏ استئناف، والمراد قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها لعنادهم الرسول صلى الله عليه وسلم المنعوت فيك تابهم المؤيد بالآيات البينات والمعجزات الباهرات، وإذا أريد بالقوم الكفرة فيأسهم من الآخرة لكفرهم بها‏.‏

‏{‏كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أصحاب القبور‏}‏ أي الذين هم أصحاب القبور أي الكفار الموتى على أن ‏{‏مِنْ‏}‏ بيانية، والمعنى أن يأس هؤلاء من الآخرة كيأس الكفار الذين ماتوا وسكنوا القبور وتبينوا حرمانهم من نعيمها المقيم، وقيل‏:‏ كيأسهم من أن ينالهم خير من هؤلاء الأحياء، والمراد وصفهم بكمال اليأس من الآخرة، وكون ‏{‏مِنْ‏}‏ بيانية مروى عن مجاهد‏.‏ وابن جبير‏.‏ وابن زيد، وهو اختيار ابن عطية‏.‏ وجماعة، واختار أبو حيان كونها لابتداء الغاية، والمعنى أن هؤلاء القوم المغضوب عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا ويلقوهم في دار الدنيا، وهو مروى عن ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة، فالمراد بالكفار أولئك القوم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلاً لكفرهم وإشعاراً بعلة يأسهم، وقرأ ابن أبي الزناد‏.‏ كما يئس الكافر بالإفراد على أرادة الجنس‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في بعض الآيات‏:‏ ما قيل‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحكيم ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ الخ إشارة للسالك إلى ترك موالاة النفس الامارة وإلقاء المودة إليها فإنها العدو الأكبر كما قيل‏:‏ أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك، وهي لا تزال كارهة للحق ومعارضة لرسول العقل نافرة له ولا تنفك عن ذلك حتى تكون مطمئنة راضية مرضية، وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏

‏{‏عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 7‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَّ ينهاكم الله‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 8‏]‏ الخ إشارة إلى أنه متى أطاعت النفس وأمن جماحها جاز إعطاؤها حظوظها المباحة، وإليه الإشارة بما روي أن «لنفسك عليك حقاً» وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مُؤْمِنُونَ يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏ الخ إشارة إلى مبايعة المرشد المريد الصادق ذا النفس المؤمنة وذلك أن يبايعه على ترك الاختيار وتفويض الأمور إلى الله عز وجل وأن لا يرغب فيما ليس له بأهل، وأن لا يلج في شهوات النفس، وأن لا يئد الوارد الإلهامي تحت تراب الطبيعة، وأن لا يفتري فيزعم أن الخاطر السرى خاطر الروح وخاطر الروح خاطر الحق إلى غير ذلك، وأن لا يعصى في معروف يفيده معرفة الله عز وجل، وأن يطلب من الله سبحانه في ضمن المبالغة أن يستر صفاته بصفاته ووجوده بوجوده، وحاصله أن يطلب له البقاء بعد الفناء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏.‏

‏[‏سورة الصفّ‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الارض وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ الكلام فيه كالكلام المار في نظيره، والنداء بوصف الإيمان في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ على ما عدا القول الأخير في سبب النزول ظاهر، وعليه قيل‏:‏ هو للتهكم بأولئك المنافقين وبإيمانهم، و‏{‏لَمْ‏}‏ مركبة من اللام الجارة‏.‏ وما الاستفهامية قد حذف ألفها على ما قال النحاة للفرق بين الخبر والاستفهام ولم يعكس حرصا على الجواب، وقيل‏:‏ لكثرة استعمالهما معا فاستحق التخفيف وإثبات الكثرة المذكورة أمر عسير، وقيل‏:‏ لاعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه، وبين بأن قولك‏.‏ لم فعلت‏؟‏ مثلا المستفهم عنه علة الفعل فهو كالمركب من العلة والفعل والعلة مدلول اللام والفعل مدلول ما لأنها بمعنى أي شيء، والمفيد لذلك المجموع، وعند عدم الحرف المسؤول عنه الفعل وحده وهو كما ترى، والمعنى لأي شيء تقولون ما لا تفعلونه من الخير والمعروف‏؟‏ا على أن مدار التوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم، وإنما وجه إلى قولهم تنبيهاً على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد أيضاً، وقد كانوا يحسبونه معروفاً، ولو قيل‏:‏ لم لا تفعلون ما تقولون لفهم منه أن المنكر هو ترك الموعود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ بيان لغاية قبح ما فعلوه، و‏{‏كَبُرَ‏}‏ من باب بئس فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده، و‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ هو المخصوص بالذم، وجوز أن يكون في ‏{‏كَبُرَ‏}‏ ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِمَ تَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 2‏]‏ أي كبر هو أي القول مقتاً؛ و‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ بدل من المضمر أو خبر مبتدأ محذوف، وقيل‏:‏ قصد فيه كثر التعجب من غير لفظه كما في قوله‏:‏ وجارة جساس أبأنا بنابها *** كليباً غلت ناب كليب بواؤها

ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، وأسند إلى ‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ ونصب ‏{‏مَقْتاً‏}‏ على تفسيره دلالة على أن قولهم‏:‏ ‏{‏مَا لاَ يَفْعَلُونَ‏}‏ مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه، ومنه نكاح المقت لتزوج الرجل امرأة أبيه، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيراً حتى جعل أشده وأفحشه، وعند الله أبلغ من ذلك لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله تعالى الذي يحقر دونه سبحانه كل عظيم فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك، وتفسير المقت بما سمعت ذهب إليه غير واحد من أهل اللغة، وقال ابن عطية‏:‏ المقت البغض من أجل ذنب‏.‏ أو ريبة‏.‏ أو دناءة يصنعها الممقوت، وقال المبرد‏:‏ رجل ممقوت ومقيت إذا كان يبغضه كل واحد، واستدل بالآية على وجوب الوفاء بالنذر؛ وعن بعض السلف أنه قيل له‏:‏ حدثنا فسكت، فقيل له‏:‏ حدثنا فقال‏:‏ وما تأمرونني أن أقول ما لا أفعل‏؟‏ فاستعجل مقت الله عز وجل، وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ‏}‏ بيان لما هو مرضى عنده سبحانه وتعالى بعد بيان ما هو ممقوت عند جل شأنه، وظاهره يرجح أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال دون ما يقتضيه ما روي عن الضحاك أو عن ابن زيد في سبب النزول، ويقتضي أن مناط التوبيخ هو إخلافهم لا وعدهم وصف مصدر وقع موقع اسم الفاعل، أو اسم المفعول، ونصبه على الحال من ضمير ‏{‏يقاتلون‏}‏ أي صافين أنفسهم أو مصفوفين، و‏{‏كَأَنَّهُمْ‏}‏ الخ حال من المستكن في الحال الأولى أي مشبهين في تلاصقهم ببنيان الخ، وهذا ما عناه الزمخشري بقوله‏:‏ هما أي ‏{‏صَفَّا‏}‏ و‏{‏كَأَنَّهُمْ‏}‏ الخ حالان متداخلان، وقول ابن المنير إن معنى التداخل أن الحال الأولى مشتملة على الحال الثانية فإن هيئة الاتصاف هي هيئة الارتصاص خلاف المعروف من التداخل في اصطلاح النحاة، وجوز أن يكون حالا ثانية من الضمير‏.‏

وقال الحوفي‏:‏ هو في موضع النعت لصفاً وهو كما ترى، والمرصوص على ما قال الفراء‏.‏ ومنذر بن سعيد هو المعقود بالرصاص، ويراد به المحكم، وقال المبرد‏:‏ رصصت البناء لاءَمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة واحدة، ومنه الرصيص وهو انضمام الأسنان، والظاهر أن المراد تشبيههم في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص من حيث أنهم لا فرجه بينهم ولا خلل، وقيل‏:‏ المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص، والأكثرون على الأول، وفي أحكام القرآن فيه استحباب قيام المجاهدين في القتال صفوفاً كصفوف الصلاة وأنه يستحب سدّ الفرج والخلل في الصفوف، وإتمام الصف الأول فالأول، وتسوية الصفوف عدم تقدم بعض على بعض فيها، وقال ابن الفرس‏:‏ استدل به بعضهم على أن قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان لأن التراصي إنما يمكن منهم، ثم قال‏:‏ وهو ممنوع انتهى، ثم إن القتال على هذه الهيئة اليوم من أصول العساكر المحمدية النظامية لا زالت منصورة مؤيدة بالتأييدات الربانية، وأنت تعلم أن للوسائل حكم المقاصد فما يتوصل به إلى تحصيل الاتصاف بذلك مما لا ينبغي أن يتكاسل في تحصيله، وقرأ زيد بن علي ‏{‏يقاتلون‏}‏ بفتح التاء، وقرىء يقتلون وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم قَوْمٍ لَّمْ تُؤْذُونَنِى‏}‏ كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال ‏{‏وَإِذْ‏}‏ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين أي اذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى عليه السلام لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله‏:‏ ‏{‏العالمين يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم فَتَنْقَلِبُوا خاسرين‏}‏ فلم يمتثلوا لأمره عليه السلام وعصوه أشد عصيان حيث قالوا‏:‏ ‏{‏قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخلون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 22‏]‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ وأصروا على ذلك كل الاصرار وآذوه عليه السلام كل الأذية فوبخهم على ذلك بوقله‏:‏ ‏{‏لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِى‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏ بالمخالفة والعصيان فيما أمرتكم به ‏{‏وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ‏}‏ جملة حالية مؤكدة لانكار الإيذاء ونفى سببه ‏{‏وَقَدْ‏}‏ لتحقيق العلم لا للتقليل ولا للتقريب لعدم مناسبة ذلك للمقام، وصيغة المضارغ للدلالة على الاستمرار أي والحال أنكم تعلمون علماً قطعياً مستمراً بمشاهدة ما ظهر على يدي من المعجزات الباهرة التي معظمها إهلاك عدوكم وإنجائكم من ملكته أني رسول الله إليكم لأرشدكم إلى خيري الدنيا والآخرة، ومن قضية علمكم بذلك أن تبالغوا في تعظيمي وتسارعوا إلى طاعتي ‏{‏فَلَمَّا زَاغُواْ‏}‏ أي أصروا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به عليه السلام واستمروا عليه ‏{‏أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ‏}‏ أي صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب لصرف اختيارهم نحو العمى والضلال، وقيل‏:‏ أي فلما زاغوا في نفس الأمر وبمقتضى ما هم عليه فيها أزاغ الله تعالى في الخارج قلوبهم إذ الإيجاد على حسب الإرادة‏.‏ والإرادة على حسب العلم‏.‏ والعلم على حسب ما عليه الشيء في نفس الأمر، وعلى الوجهين لا إشكال في الترتيب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين‏}‏ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله من الإزاغة ومؤذن بعلته أي لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة‏.‏ ومنهاج الحق المصرين على الغواية هداية موصلة إلى البغية، وإلا فالهداية إلى ما يوصل إليها شاملة للكل، والمراد بهم إما المذكورون خاصة والإظهار في مقام الاضمار لذمهم بالفسق وتعليل عدم الهداية به، أو جنس الفاسقين وهم داخلون في حكمهم دخولاً أولياً، قيل‏:‏ وأياً مّا كان فهو ناظر إلى ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 25‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 26‏]‏ هذا وقيل‏:‏ إذ ظرف متعلق بفعل مقدر يدل عليه ما بعده كزاغوا ونحوه، والجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن إيذاءهم إياه عليه السلام بما كان من انتقاصه وعيبه في نفسه وجحود آياته وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه وعبادتهم البقر وطلبهم رؤية الله سبحانه جهرة والتكذيب الذي هو حق الله تعالى وحقه عليه السلام، وما ذكر أولا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم ويرتضيه الذوق السليم‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ إما معطوف على ‏{‏إذ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏ الأولى معمول لعاملها، وإما معمول لمضمر معطوف على عاملها ‏{‏يبَنِى إسراءيل‏}‏ ولعله عليه السلام لم يقل ‏{‏إِنَّ قَوْمِى‏}‏ كما قال موسى عليه السلام بل قال‏:‏ ‏{‏مَعِىَ بَنِى إسراءيل‏}‏ لأنه ليس له النسب المعتاد وهو ما كان من قبل الأب فيهم، أو إشارة إلى أنه عامل بالتوراة وأنه مثلهم في أنه من قوم موسى عليه السلام هضماً لنفسه بأنه لا أتباع له ولا قوم، وفيه من الاستعطاف ما فيه، وقيل‏:‏ إن الاستعطاف بما ذكر لما فيه من التعظيم، وقد كانوا يفتخرون بنسبتهم إلى إسرائيل عليه السلام‏.‏

‏{‏إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ‏}‏ أي مرسل منه تعالى إليكم حال كوني مصدقاً، فنصب ‏{‏بيحيى مُصَدّقاً‏}‏ على الحال من الضمير المستتر في ‏{‏رَّسُولٍ‏}‏ وهو العامل فيه، و‏{‏إِلَيْكُمْ‏}‏ متعلق به، وهو ظرف لغو لا ضمير فيه ليكون صاحب حال، وذكر هذا الحال لأنه من أقوى الدواعي إلى تصديقهم إياه عليه السلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى‏}‏ معطوف على ‏{‏مُصَدّقاً‏}‏، وهو داع أيضاً إلى تصديقه عليه السلام من حيث أن البشارة بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم واقعة في التوراة كقوله تعالى في الفصل العشرين من السفر الخامس‏:‏ منها أقبل الله من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران معه الربوات الأطهار عن يمينه، وقوله سبحانه في الفصل الحادي عشر من هذا السفر‏:‏ يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبياً من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه، ويقول لهم ما آمره فيه، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمى أنا أنتقم منه ومن سبطه إلى غير ذلك، ويتضمن كلامه عليه السلام أن دينه التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام جيمعاً من تقدم ومن تأخر، وجملة ‏{‏يَأْتِىَ‏}‏ الخ في موضع الصفة لرسول وكذا جملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اسمه أَحْمَدُ‏}‏ وهذا الاسم الجليل علم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه قول حسان‏:‏ صلى الإله ومن يحف بعرشه *** والطيبون على المبارك أحمد

وصح من رواية مالك‏.‏ والبخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والدارمي، والترمذي‏.‏ والنسائي عن جبير بن مطعم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن لي أسماء أنا محمد‏.‏ وأنا أحمد‏.‏ وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي‏.‏ وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر‏.‏ وأنا العاقب» والعاقب الذي ليس بعده نبى وهو منقول من المضارع للمتكلم‏.‏ أو من أفعل التفضيل من الحامدية، وجوز أن يكون من المحمودية بناءاً على أنه قد سمع أحمد اسم تفضيل منها نحو العود أحمد، وإلا فأفعل من المبني للمفعول ليس بقياسي، وقرىء ‏{‏مِن بَعْدِى‏}‏ بفتح الياء، هذا وبشارته عليه السلام بنبينا صلى الله عليه وسلم مما نطق به القرآن المعجز، فإنكار النصارى ذلك ضرب من الهذيان، وقولهم‏:‏ لو وقعت لذكرت في الانجيل الملازمة فيه ممنوعة، وإذا سلمت قلنا‏:‏ بوقوعها في الإنجيل إلا أن جامعيه بعد رفع عيسى عليه السلام أهملوها اكتفاءاً بما في التوراة‏.‏

ومزامير داود عليه السلام‏.‏ وكتب شعياء‏.‏ وحبقوق‏.‏ وأرمياء‏.‏ وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام‏.‏

ويجوز أن يكونوا قد ذكروها إلا أن علماء النصارى بعد حباً لدينهم أو لأمر ما غير ذلك أسقطوها كذا قيل، وأنا أقول‏:‏ الأناجيل التي عند النصارى أربعة‏:‏ إنجيل متى من الاثنى عشر الحواريين جمعه باللغة السريانية بأرض فلسطين بعد رفع عيسى عليه السلام بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا، وإنجيل مرقص وهو من السبعين جمعه باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد الرفع باثنتي عشرة سنة وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحاً، وإنجيل لوقا وهو من السبعين أيضاً جمعه بالاسكندرية باللغة اليونانية وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحاً، وإنجيل يوحنا وهو حبيب المسيح جمعه بمدينة إفسس من بلاد رومية بعد الرفع بثلاثين سنة وعدة إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحاً وهي مختلفة، وفيها ما يشهد الانصاف بأنه ليس كلام الله عز وجل ولا كلام عيسى عليه السلام كقصة صلبه الذي يزعمونه ودفنه ورفعه من قبره إلى السماء فما هي إلا كتواريخ وتراجم فيها شرح بعض أحوال عيسى عليه السلام ولادة ورفعاً ونحو ذلك، وبعض كلمات له عليه السلام على نحو بعض الكتب المؤلفة في بعض الأكابر والصالحين فلا يضر إهمالها بعض الأحوال، والكلمات التي نطق القرآن العظيم بها ككلامه عليه السلام في المهد وبشارته بنبينا صلى الله عليه وسلم على أن في إنجيل يوحنا ما هو بشارة بذلك عند من أنصف وسلك الصراط السوى وما تعسفا، ففي الفصل الحامس عشر منه قال يسوع المسيح‏:‏ إن الفار قليط روح الحق الذي يرسله أبي يعلمكم كل شيء، وقال يوحنا أيضاً‏:‏ قال المسيح‏:‏ من يحبني يحفظ كلمتي وأبي بحيه وإليه يأتي وعنده يتخذ المنزلة كلمتكم بهذا لأني لست عندكم بمقيم، والفار قليط روح القدس الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلت لكم أستودعكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمضيي إلى الأب، وقال أيضاً‏:‏ إن خيراً لكم أن أنطلق لأبي إن لم أذهب لم يأتكم الفار قليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء فهو يوبخ العالم على الخطيئة وإن لي كلاماً كثيراً أريد قوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب، وقال أيضاً‏:‏ إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فار قليطاً آخر يثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاماً لأني سآتيكم من قريب، والفار قليط لفظ يؤذن بالحمد، وتعين إرادته صلى الله عليه وسلم من كلامه عليه السلام مما لا غبار عليه لمن كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه، وقد فسره بعض النصارى بالحماد، وبعضهم بالحامد فيكون في مدلوله إشارة إلى اسمه عليه الصلاة والسلام أحمد، وفسره بعضهم بالمخلص لقوله عيسى عليه السلام‏:‏ فالله يرسل مخلصاً آخر فلا يكون ما ذكر بشارة به صلى الله عليه وسلم بعنوان الحمد لكنه بشارة به صلى الله عليه وسلم بعنوان التخليص، فيستدل به على ثبوت رسالته صلى الله عليه وسلم، وإن لم يستدل به على ما في الآية هنا، وزعم بعضهم أن الفار قليط إشارة إلى ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا الآيات والعجائب، ولا يخفى أن وصفه بآخر يأبى ذلك إذ لم يتقدم لهم غيره ‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ‏}‏ أي عيسى عليه السلام ‏{‏بالبَيِّنَات‏}‏ أي بالمعجزات الظاهرة‏.‏

‏{‏قَالُوا هَذَا سحْرٌ مُّبينٌ‏}‏ مشيرين إلى ما جاء به عليه السلام، فالتذكير بهذا الاعتبار، وقيل‏:‏ مشيرين إليه عليه السلام وتسميته سحراً للمبالغة، ويؤيده قراءة عبد الله‏.‏ وطلحة‏.‏ والأعمش‏.‏ وابن وثاب هذا ساحر وكون فاعل ‏{‏جاءهم‏}‏ ضمير عيسى عليه السلام هو الظاهر لأنه المحدث عنه، وقيل‏:‏ هو ضمير ‏{‏أحمد‏}‏ عليه الصلاة والسلام لما فرغ من كلام عيسى تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلى الله عليه وسلم أي فلما جاء أحمد هؤلاء الكفار بالبينات ‏{‏قالوا‏}‏ الخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أظْلَمُ ممَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهَ الكَذبَ وَهُوَ يُدْعَى إلَى الاسْلاَم‏}‏ أي أي الناس أشد ظلماً ممن يدعي إلى الإسلام الذي يوصله إلى سعادة الدارين فيضع موضع الإجابة الافتراء على الله عز وجل بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحراً فإن الافتراء على الله تعالى يعم نفي الثابت وإثبات المنفى أي لا أظلم من ذلك، والمراد أنه أظلم من كل ظالم، وقرأ طلحة ‏{‏يدعي‏}‏ مضارع ادعى مبنياً للفاعل وهو ضميره تعالى، و‏{‏يدعي‏}‏ بمعنى يدعو يقال‏:‏ دعاه وادعاه نحو لمسه والتمسه، وقيل‏:‏ الفاعل ضمير المفتري، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدي بإلى أي وهو ينتسب إلى الإسلام مدعياً أنه مسلم وليس بذاك، وعنه ‏{‏يدعي‏}‏ مضارع ادعى أيضاً لكنه مبني للمفعول، ومعناه كما سبق، والآية فيمن كذب من هذه الأمة على ما يقتضيه ما بعد، وهي إن كانت في بني إسرائيل الذين جاءهم عيسى عليه السلام ففيها تأييد لمن ذهب إلى عدم اختصاص الإسلام بالدين الحق الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ لاَ يَهْدي القَوْمَ الظالمين‏}‏ أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم لسوء استعدادهم وعدم توجههم إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏يُريدُونَ ليُطْفئُوا نُورَ الله بأفْوَاههمْ‏}‏ تمثيل لحالهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحالة من ينفخ الشمس بفيه ليطفئها تهكماً وسخرية بهم كما تقول الناس‏:‏ هو يطفىء عين الشمس، وذهب بعض الأجلة إلى أن المراد بنور الله دينه تعالى الحق كما روي عن السدى على سبيل الاستعارة التصريحية، وكذا في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَاللَّهَ مُتمُّ نُوره‏}‏ و‏{‏متم‏}‏ تجريد، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأفواههم‏}‏ تورية، وعن ابن عباس‏.‏ وابن زيد يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول، وقال ابن بحر‏:‏ يريدون إبطال حجج الله تعالى بتكذيبهم، وقال الضحاك‏:‏ يريدون هلاك الرسول صلى الله عليه وسلم بالأراجيف، وقيل‏:‏ يريدون إبطال شأن النبي صلى الله عليه وسلم وإخفاء ظهوره بكلامهم وأكاذيبهم، فقد روي عن ابن عباس أن الوحي أبطأ أربعين يوماً فقال كعب بن الأشرف‏:‏ يا معشر يهود أبشروا أطفأ الله تعالى نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم نوره فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت ‏{‏يريدون‏}‏ إلى آخره، وفي ‏{‏يريدون ليطفئوا‏}‏ مذاهب‏:‏ أحدها أن اللام زائدة والفعل منصوب بأن مقدرة بعدها، وزيدت لتأكيد معنى الإرادة لما في لام العلة من الاشعار بالإرادة والقصد كما زيدت اللام في‏:‏ لا أبالك لتأكيد معنى الإضافة؛ ثانيها أنها غير زائدة للتعليل، ومفعول ‏{‏يريدون‏}‏ محذوف أي يريدون الافتراء لأن يطفئوا، ثالثها أن الفعل أعني ‏{‏يريدون‏}‏ حال محل المصدر مبتدأ واللام للتعليل والمجرور بها خبر أي إرادتهم كائنة للاطفاء، والكلام نظير تسمع بالمعيدي خير من أن تراه من وجه، رابعها أن اللام مصدرية بمعنى أن من غير تقدير والمصدر مفعول به ويكثر ذلك بعد فعل الإرادة والأمر، خامسها أن ‏{‏يريدون‏}‏ منزل منزلة اللازم لتأويله بيوقعون الإرادة، قيل‏:‏ وفيه مبالغة لجعل كل إرادة لهم للاطفاء وفيه كلام في «شرح المغني» وغيره‏.‏

وقرأ العربيان‏.‏ ونافع‏.‏ وأبو بكر‏.‏ والحسن‏.‏ وطلحة‏.‏ والاعرج‏.‏ وابن محيصن ‏{‏متم‏}‏ بالتنوين ‏{‏نوره‏}‏ بالنصب على المفعولية لمتم ‏{‏وَلَوْ كَرهَ الكافرون‏}‏ حال من المستكن في ‏{‏متم‏}‏ وفيه إشارة إلى أنه عز وجل متم ذلك إرغاماً لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ‏}‏ محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏بالْهُدَى‏}‏ بالقرآن، أو بالمعجزة بجعل ذلك نفس الهدى مبالغة ‏{‏وَدين الحَقِّ‏}‏ والملة الحنيفية ‏{‏ليُظْهرَهُ عَلَى الدين كُلِّه‏}‏ ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، ولقد أنجز الله عز وجل وعده حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام‏.‏

وعن مجاهد إذا نزل عيسى عليه السلام لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام، ولا يضر في ذلك ما ورد من أنه يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه من الإسلام إلا اسمه إذ لا دلالة في الآية على الاستمرار، وقيل‏:‏ المراد بالاظهار الاعلاء من حيث وضوح الأدلة وسطوع البراهين وذلك أمر مستمر أبداً ‏{‏وَلَوْ كَرهَ المُشْركُونَ‏}‏ ذلك لما فيه من محض التوحيد وإبطال الشرك، وقرىء هو الذي أرسل نبيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الذين ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تجَارَة‏}‏ جليلة الشأن ‏{‏تُنْجيكُمْ مِنْ عَذَاب أَليم‏}‏ يوم القيامة، وقرأ الحسن‏.‏ وابن أبي إسحق‏.‏ والأعرج‏.‏ وابن عامر ‏{‏تنجيكم‏}‏ بالتشديد، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏تُؤْمنُونَ بالله وَرَسُوله وتجاهدون في سَبيل الله بأَمْوَالكُمْ وَأَنْفُسكُمْ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ ما هذه التجارة‏؟‏ دلنا عليها‏:‏ فقيل‏:‏ ‏{‏تؤمنون‏}‏ الخ، والمضارع في الموضعين كما قال المبرد‏.‏ وجماعة خبر بمعنى الأمر أي آمنوا وجاهدوا، ويؤيده قراءة عبد الله كذلك، والتعبير به للإيذان بوجوب الامتثال كأن الايمان والجهاد قد وقعا فأخبر بوقوعهما، والخطاب إذا كان للمؤمنين الخلص فالمراد تثبتون وتدومون على الايمان أو تجمعون بين الايمان والجهاد أي بين تكميل النفس وتكميل الغير وإن كان للمؤمنين ظاهراً فالمراد تخلصون الايمان، وأياً ما كان فلا إشكال في الأمر، وقال الأخفش‏:‏ ‏{‏تؤمنون‏}‏ الخ عطف بيان على ‏{‏تجارة‏}‏، وتعقب بأنه لا يتخيل إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر، ثم حذف أن فارتفع الفعل كما في قوله‏:‏ ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى *** يريد أن احضر فلما حذف أن ارتفع الفعل وهو قليل، وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏تؤمنون‏}‏ فعل مرفوع بتقدير ذلك أنه تؤمنون، وفيه حذف المبتدا وأن واسمها وإبقاء خبرها، وذلك على ما قال أبو حيان‏:‏ لا يجوز، وقرأ زيد بن علي تؤمنوا وتجاهدوا بحذف نون الرفع فيهما على إضمار لام الأمر أي لتؤمنوا وتجاهدوا، أو لتجاهدوا كما في قوله‏:‏ قلت لبواب على بابها *** تأذن لنا إني من أحمائها

وكذا قوله‏:‏ محمد تفد نفسك كل نفس *** إذا ما خفت من أمر تبالا

وجوز الاستئناف، والنون حذفت تخفيفاً كما في قراءة ‏(‏ساحران يظاهرا‏)‏‏}‏ وقوله‏:‏ ونقري ما شئت أن تنقري *** قد رفع الفخ فماذا تحذري

وكذا قوله‏:‏ أبيت أسري وتبيتي تدلكي *** وجهك بالعنبر والمسك الذكي

وأنت تعلم أن الحذف شاذ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي ما ذكر من الايمان والجهاد ‏{‏خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ على الإطلاق أو من أموالكم وأنفسكم ‏{‏إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي إن كنتم من أهل العلم إذ الجهلة لا يعتدّ بأفعالهم حتى توصف بالخيرية، وقيل‏:‏ أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيراً لكم حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتم أحببتم الايمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتخلصون وتفلحون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏يَغْفرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر كما في قولهم‏:‏ اتقى الله تعالى امرؤ وفعل خيراً يثب عليه؛ أو جواب لشرط، أو استفهام دل عليه الكلام، والتقدير أن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم، أو هل تقبلون أن أدلكم‏؟‏ أو هل تتجرون بالايمان والجهاد‏؟‏ يغفر لكم، وقال الفراء‏:‏ جواب للاستفهام المذكور أي هل أدلكم، وتعقب بأن مجرد الدلالة لا يوجب المغفرة، وأجيب بأنه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 31‏]‏ وقد قالوا فيه‏:‏ إن القول لما كان للمؤمن الراسخ الإيمان كان مظنة لحصول الامتثال فجعل كالمحقق وقوعه فيقال ههنا‏:‏ لما كانت الدلالة مظنة لذلك نزلت منزلة المحقق، ويؤيده ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 11‏]‏ لأن من له عقل إذا دله سيده على ما هو خير له لا يتركه، وادعاء الفرق بما ثمة من الإضافة التشريفية وما هنا من المعاتبة قيل‏:‏ غير ظاهر فتدبر، والانصاف أن تخريج الفراء لا يخلو عن بعد، وأما ما قيل‏:‏ من أن الجملة مستأنفة لبيان أن ذلك خير لهم، و‏{‏يغفر‏}‏ مرفوع سكن آخره كما سكن آخر ‏{‏أشرب‏}‏ في قوله‏:‏ فاليوم ‏(‏أشرب‏)‏‏}‏ غير مستحقب *** إثماً من الله ولا واغل

فليس بشيء لما صرحوا به من أن ذلك ضرورة‏.‏

‏{‏وَيُدْخلْكُمْ حنات تَجْري مِنْ تَحْتهَا الأنهار ومساكن طَيِّبَةً‏}‏ أي طاهرة زكية مستلذة، وهذا إشارة إلى حسنها بذاتها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في جنات عَدْن‏}‏ إشارة إلى حسنها باعتبار محلها ‏{‏ذلك‏}‏ أي ما ذكر من المغفرة وما عطف عليها ‏{‏الفَوْزُ العَظيمُ‏}‏ الذي لا فوز وراءه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَأُخْرَى‏}‏ أي ولكم إلى ما ذكر من النعم نعمة أخرى، فأخرى مبتدأ، وهي في الحقيقة صفة للمبتدأ المحذوف أقيمت مقامه بعد حذفه، والخبر محذوف قاله الفراء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُحبُّونَهَا‏}‏ في موضع الصفة، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نَصْرٌ مِّنَ الله وَفَتْحٌ قَريبٌ‏}‏ أي عاجل بدل أو عطف بيان، وجملة المبتدأ وخبره قيل‏:‏ حالية؛ وفي «الكشف» وإنها عطف على جواب الأمر أعني ‏{‏يغفر‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 12‏]‏ من حيث المعنى كما تقول‏:‏ جاهدوا تؤجروا ولكم الغنيمة وفي ‏{‏تحبونها‏}‏ تعبير لهم وكذلك في إيثار الاسمية على الفعلية وعطفها عليهاكأن هذه عندهم أثبت وأمكن ونفوسهم إلى نيلها والفوز أسكن‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏أخرى‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏نصر‏}‏ وقال قوم‏:‏ هي في موضع نصب باضمار فعل أي ويعطكم أخرى، وجعل ذلك من باب‏.‏ علفتها تبناً وماءاً بارداً *** ومنهم من قدر تحبون أخرى على أنه من باب الاشتغال، و‏{‏نصر‏}‏ على التقديرين خبر مبتدأ محذوف أي ذلك أو هو ‏{‏نصر‏}‏، أو مبتدأ خبره محذوف أي نصر وفتح قريب عنده، وقال الأخفش‏:‏ هي في موضع جر بالعطف على ‏{‏تجارة‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10‏]‏ وهو كما ترى‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة نصراً وفتحاً قريباً بالنصب بأعني مقدراً، أو على المصدر أي تنصرون نصراً ويفتح لكم فتحاً، أو على البدلية من ‏{‏أخرى‏}‏ على تقدير نصبها ‏{‏وَبَشِّر المُؤْمنينَ‏}‏ عطف على قل مقدراً قبل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10‏]‏، وقيل‏:‏ على أبشر مقدراً أيضاً، والتقدير فأبشر يا محمد وبشر‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ هو عطف على ‏{‏تؤمنون‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 11‏]‏ لأنه في معنى الأمر كأنه قيل‏:‏ آمنوا وجاهدوا يثبكم الله تعالى وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك، وتعقبه في الإيضاح بأن فيه نظراً لأن المخاطبين في ‏{‏تؤمنون‏}‏ هم المؤمنون، وفي ‏{‏بشر‏}‏ هو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تؤمنون‏}‏ بيان لما قبله على طريق الاستئناف فكيف يصح عطف ‏{‏بشر المؤمنون‏}‏ عليه‏؟‏ وأجيب بما خلاصته أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته كما تقرر في أصول الفقه، وإذا فسر بآمنوا وبشر دل على تجارته عليه الصلاة والسلام الرابحة وتجارتهم الصالحة، وقدم ‏{‏آمنوا‏}‏ لأنه فاتحة الكل ثم لو سلم فلا مانع من العطف على جواب السائل بما لا يكون جواباً إذا ناسبه فيكون جواباً للسؤال وزيادة كيف وهو داخل فيه‏؟‏ كأنهم قالوا‏:‏ دلنا يا ربنا فقيل‏:‏ آمنوا يكن لكم كذا وبشرهم يا محمد بثبوته لهم، وفيه من إقامة الظاهر مقام المضمر وتنويع الخطاب ما لا يخفى نبل موقعه، واختاره «صاحب الكشف» فقال‏:‏ إن هذا الوجه من وجه العطف على قل ووجه العطف على فابشر لخلوهما عن الفوائد المذكورة يعني ما تضمنه الجواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الذين ءَامَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ الله‏}‏ أي نصرة دينه سبحانه وعونة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقرأ الأعرج‏.‏ وعيسى‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ والحرميان أنصاراً لله بالتنوين وهو للتبعيض فالمعنى كونوا بعض أنصاره عز وجل‏.‏

وقرأ ابن مسعود على ما في «الكشف» كونوا أنتم أنصار الله، وفي موضح الأهوازي‏.‏ والكواشي أنتم دون ‏{‏كونوا‏}‏ ‏{‏كَمَا قَالَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ للحواريان مَنْ أنصارى إلَى الله‏}‏ أي من جندي متوجهاً إلى نصرة الله تعالى ليطابق قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالَ الْحَوَاريُّونَ نَحْن أَنْصَارُ الله‏}‏ وقيل‏:‏ ‏{‏إلى‏}‏ بمعنى مع و‏{‏نحن أنصار الله‏}‏ بتقدير نحن أنصار نبي الله فيحصل التطابق، والأول أولى، والإضافة في ‏{‏أنصاري‏}‏ إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر لأنهما لما اشتركا في نصرة الله عز وجل كان بينهما ملابسة تصحح إضافة أحدهما للآخر والإضافة في ‏{‏أنصار الله‏}‏ إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى إذ المراد قل لهم ذلك كما قال عيسى، وقال أبو حيان‏:‏ هو على معنى قلنا لكم كما قال عيسى‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ هو على معنى كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم‏:‏ ‏{‏من أنصاري إلى الله‏}‏ وخلاصته على ما قيل‏:‏ إن ما مصدرية وهي مع صلتها ظرف أي كونوا أنصار الله وقت قولي لكم ككون الحواريين أنصاره وقت قول عيسى، ثم قيل‏:‏ كونوا أنصاره كوقت قول عيسى هذه المقالة، وجيء بحديث سؤاله عن الناصر وجوابهم فهو نظير كاليوم في قولهم‏:‏ كاليوم رجل أي كرجل رأيته اليوم فحذف الموصوف مع صفته، واكتفى بالظرف عنهما لدلالته على الفعل الدال على موصوفه، وهذا من توسعاتهم في الظروف، وقد جعلت الآية من الاحتباك، والأصل كونوا أنصار الله حين قال لكم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏من أنصاري الله‏}‏ كما كان الحواريون أنصار الله حين قال لهم عيسى عليه السلام ‏{‏من أنصاري إلى الله‏}‏ فحذف من كل منهما ما دل عليه المذكور في الآخر، وهو لا يخلو عن حسن، و‏{‏الحواريون‏}‏ أصفياؤه عليه السلام، والعدول عن ضميرهم إلى الظاهر للاعتناء بشأنهم، وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً فرقهم على ما في «البحر» عيسى عليه السلام في البلاد، فمنهم من أرسله إلى رومية، ومنهم من أرسله إلى بابل، ومنهم من أرسله إلى أفريقية، ومنهم من أرسله إلى أفسس، ومنهم من أرسله إلى بيت المقدس، ومنهم من أرسله إلى الحجاز، ومنهم من أرسله إلى أرض البربر وما حولها وتعيين المرسل إلى كل فيه، ولست على ثقة من صحة ذلك ولا من ضبط أسمائهم، وقد ذكرها السيوطي أيضاً في الاتقان فليلتمس ضبط ذلك من مظانه، واشتقاق الحواريين من الحور وهو البياض وسموا بذلك لأنهم كانوا قصارين، وقيل‏:‏ للبسهم البياض، وقيل‏:‏ لنقاء ظاهرهم وباطنهم، وزعم بعضهم أن ما قيل‏:‏ من أنهم كانوا قصارين إشارة إلى أنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم، وما قيل‏:‏ من أنهم كانوا صيادين إشارة إلى أنهم كانوا يصطادون نفوس الناس من الحيرة ويقودونهم إلى الحق‏.‏

وقيل‏:‏ الحواريون المجاهدون، وفي الحديث «لكل نبي حواري وحواريي الزبير» وفسر بالخاصة من الأصحاب‏.‏ والناصر، وقال الأزهري‏:‏ الذي أخلص ونقى من كل عيب، وعن قتادة إطلاق الحواري على غيره رضي الله تعالى عنه أيضاً، فقد قال‏:‏ إن الحواريين كلهم من قريش أبو بكر‏.‏ وعمر‏.‏ وعلي‏.‏ وحمزة‏.‏ وجعفر‏.‏ وأبو عبيدة بن الجراح‏.‏ وعثمان بن مظعون‏.‏ وعبد الرحمن بن عوف‏.‏ وسعد بن أبي وقاص‏.‏ وعثمان بن عفان‏.‏ وطلحة بن عبيد الله‏.‏ والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهم أجمعين‏.‏

‏{‏فَئَامَنَتْ طَائفَةٌ مِّنْ بَني إسْرَاءيلَ‏}‏ أي بعيسى عليه السلام ‏{‏وَكَفَرَتْ طَائفَةٌ‏}‏ أخرى‏.‏

‏{‏فَأيَّدْنَا الذين ءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهمْ‏}‏ وهم الذين كفروا فأَصْبَحُوا ظاهرين‏}‏ فصاروا غالبين؛ قال زيد بن علي‏.‏ وقتادة‏:‏ بالحجة والبرهان، وقيل‏:‏ إن عيسى عليه السلام حين رفع إلى السماء قالت طائفة من قومه‏:‏ إنه الله سبحانه، وقالت أخرى‏:‏ إنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً رفعه الله عز وجل إليه، وقالت طائفة‏:‏ إنه عبد الله ورسوله فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم فظهرت المؤمنة على الكافرتين، وروى ذلك عن ابن عباس، وقيل‏:‏ اقتتل المؤمنون والكفرة بعد رفعه عليه السلام فظهر المؤمنون على الكفرة بالسيف، والمشهور أن القتال ليس من شريعته عليه السلام، وقيل‏:‏ المراد ‏{‏فآمنت طائفة من بني إسرائيل‏}‏ بمحمد عليه الصلاة والسلام وكفرت أخرى صلى الله عليه وسلم فأيدنا المؤمنين على الكفرة فصاروا غالبين‏.‏ وهو خلاف الظاهر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏سورة الجمعة‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

بسْم الله الرحمن الرَّحيم ‏{‏يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ تسبيحاً متجدداً على سبيل الاستمرار ‏{‏الملك القدوس العزيز الحكيم‏}‏ صفات للاسم الجليل، وقد تقدم معناها، وقرأ أبو وائل، ومسلمة بن محارب، ورؤبة، وأبو الدينار، والأعرابي برفعها على المدح، وحسن ذلك الفصل الذي فيه نوع طول بين الصفة والموصوف، وجاء كذلك عن يعقوب، وقرأ أبو الدينار، وزيد بن علي ‏{‏القدوس‏}‏ بفتح القاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى بَعَثَ فِى الاميين‏}‏ يعني سبحانه العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرأون‏.‏

وقد أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» وأريد بذلك أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى، فالأمي نسبة إلى الأم التي ولدته، وقيل‏:‏ نسبة إلى أمة العرب، وقيل‏:‏ إلى أم القرى، والأولى أشهر، واقتصر بعضهم في تفسيره على أنه الذي لا يكتب، والكتابة على ما قيل‏:‏ بدئت بالطائف أخذوها من أهل الحيرة وهم من أهل الأنبار، وقرىء الأمين بحذف ياء النسب ‏{‏رَسُولاً مّنْهُمْ‏}‏ أي كائناً من جملتهم، فمن تبعيضية، والبعضية‏:‏ إما باعتبار الجنس فلا تدل على أنه عليه الصلاة والسلام أمي، أو باعتبار الخاصة المشتركة في الأكثر فتدل، واختار هذا جمع، فالمعنى رسولاً من جملتهم أمياً مثلهم ‏{‏يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته‏}‏ مع كونه أمياً مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم ‏{‏وَيُزَكّيهِمْ‏}‏ عطف على ‏{‏يَتْلُو‏}‏ فهو صفة أيضاً لرسولاً أي يحملهم على ما يصيرون به أزكياء طاهرين من خبائث العقائد والأعمال‏.‏

‏{‏وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة‏}‏ صفة أيضاً لرسولاً مترتبة في الوجود على التلاوة‏.‏ وإنما وسط بينهم التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلاً من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر، ولو روعي ترتيب الوجود لربما يتبادل إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة كما في سورة البقرة، وهو السر في التعبير عن القرآن تارة بالآيات؛ وأخرى بالكتاب والحكمة رمزاً إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة‏.‏ ولا يقدح فيه شمول الحكمة لما في تضاعيف الأحاديث النبوية من الأحكام والشرائع قاله بعض الأجلة، وجوز كون ‏{‏الكتاب والحكمة‏}‏ كناية عن جميع النقليات والعقليات كالسماوات والأرض بجميع الموجودات‏.‏ والأنصار والمهاجرين بجميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏.‏ وفيه من الدلالة على مزيد علمه صلى الله عليه وسلم ما فيه؛ ولو لم يكن له عليه الصلاة والسلام سوى ذلك معجزة لكفاه كما أشار إليه البوصيري بقوله‏:‏ كفاك بالعلم في الأمي معجزة *** في الجاهلية والتأديب في اليتم

‏{‏وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ من الشرك وخبث الجاهلية، وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم وإن كان نسبة الضلال إليهم باعتبار الأكثر إذ منهم مهتد كورقة وأضرابه، وفي الكلام إزاحة لما عسى أن يتوهم من تعلمه عليه الصلاة والسلام من الغير ‏{‏وَأَنْ‏}‏ هي المخففة واللام هي الفارقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَءاخَرِينَ‏}‏ جمع آخر بمعنى الغير، وهو عطف على ‏{‏الاميين‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏ أي وفي آخرين ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ أي من الأميين، ومن للتبيين ‏{‏لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون، وهو الذين جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين؛ وجوز أن يكون عطفاً على المنصوب في ‏{‏وَيُعَلّمُهُمُ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏ أي ويعلمهم ويعلم آخرين فإن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستنداً إلى أوله فكأنه عليه الصلاة والسلام هو الذي تولى كل ما وجد منه واستظهر الأول، والمذكور في الآية قوله صلى الله عليه وسلم، وجنس الذين بعث فيهم، وأما المبعوث إليهم فلم يتعرض له فيها نفياً أو إثباتاً، وقد تعرض لإثباته في آياته أخر، وخصوص القوم لا ينافي عموم ذلك فلا إشكال في تخصيص الآخرين بكونهم من الأميين أي العرب في النسب، وقيل‏:‏ المراد من الأميين في الأمية فيشمل العجم، وبهم فسره مجاهد كما رواه عنه ابن جرير‏.‏ وغيره وتعقب بأن العجم لم يكونوا أميين‏.‏

وقيل‏:‏ المراد منهم في كونهم منسوبين إلى أمة مطلقاً لا في كونهم لا يقرأون ولا يكتبون، وهو كما ترى إلا أنه لا يشكل عليه وكذا على ما قبله ما أخرجه البخاري‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وجماعة عن أبي هريرة قال‏:‏ «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ ‏{‏وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ‏}‏ قال له رجل‏:‏ يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا‏؟‏ فوضع يده على سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال‏:‏ والذي نفسي بيده لو كان الايمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء» فإنه صلى الله عليه وسلم أشار بذلك إلى أنهم فارس، ومن المعلوم أنهم ليسوا من الأميين المراد بهم العرب في النسب‏.‏

وقال بعض أهل العلم‏:‏ المراد بالأميين مقابل أهل الكتاب لعدم اعتناء أكثرهم بالقراءة والكتابة لعدم كتاب لهم سماوي تدعوهم معرفته إلى ذلك فيشمل الفرس إذ لا كتاب لهم كالعرب، وعلى ذلك يخرج ما أشار إليه الحديث من تفسير الآخرين بالفرس وهو مع ذلك من باب التمثيل، والاقتصار على بعض الأنواع بناءاً على أن بعض الأمم لا كتاب لهم أيضاً، وربما يقال‏:‏ إن من في ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ اسمية بمعنى بعض مبتدأ كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ وضمير الجمع لآخرين وجملة ‏{‏لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ‏}‏ خبر فيشمل آخرين، طوائف الناس الذين يلحقون إلى يوم القيامة من العرب والروم والعجم وغيرهم؛ وبذلك فسره الضحاك‏.‏ وابن حيان‏.‏ ومجاهد في رواية، ويكون الحديث من باب الاقتصار والتمثيل كقول ابن عمر‏:‏ هم أهل اليمن، وابن جبير هم الروم والعجم فتدبر‏.‏

وزعم بعضهم أن المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ‏}‏ أنهم لم يلحقوا بهم في الفضل لفضل الصحابة على التابعين ومن بعدهم، وفيه أن ‏{‏لَّمّاً‏}‏ منفيها مستمر إلى الحال ويتوقع وقوعه بعده فتفيد أن لحوق التابعين ومن بعدهم في الفضل للصحابة متوقع الوقوع مع أنه ليس كذلك، وقد صرحوا أنه لا يبلغ تابعي وإن جل قدراً في الفضل مرتبة صحابي وإن لم يكن من كبار الصحابة، وقد سئل عبد الله بن المبارك عن معاوية‏.‏ وعمر بن عبد العزيز أيهما أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ الغبار الذي دخل أنف فرس معاوية أفضل عند الله من مائة عمر بن عبد العزيز فقد صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏ الخ فقال معاوية‏:‏ آمين، واستدل على عدم اللحوق بما صح من قوله عليه الصلاة والسلام فيهم‏:‏ «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» على القول بأن الخطاب لسائر الأمة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخر» فمبالغة في خيريتهم كقول القائل في ثوب حسن البطانة‏:‏ لا يدري ظهارته خير أم بطانته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما تقدم من كونه عليه الصلاة والسلام رسولاً في الأميين ومن بعدهم معلماً مزكياً وما فيه من معنى البعد للتعظيم أي ذلك الفضل العظيم ‏{‏فَضَّلَ الله‏}‏ وإحسانه جل شأنه ‏{‏يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ من عباده تفضلاً، ولا يشاء سبحانه إيتاءه لا حد بعده صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ الذي يستحقر دونه نعم الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة‏}‏ أي علموها وكلفوا العمل بما فيها، والتحميل في هذا شائع يلحق بالحقيقة، والمراد بهم اليهود ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا‏}‏ أي لم يعلموا بما في تضاعيفها التي من جملتها الآيات الناطقة بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً‏}‏ أي كتباً كباراً على ما يشعر به التنكير، وإيثار لفظ السفر وما فيه من معنى الكشف من العلم يتعب بحملها ولا ينتفع بها، و‏{‏يَحْمِلُ‏}‏ إما حال من الحمار لكونه معرفة لفظاً والعامل فيه معنى المثل، أو صفة له لأن تعريفه ذهني فهو معنى نكرة فيوصف بما توصف به على الأصح‏.‏

ونسب أبو حيان للمحققين تعين الحالية في مثل ذلك، ووجه ارتباط الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة وعلى ألسنة أنبياء بني إسرائيل كأنه قيل‏:‏ هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت فيها بالنبي الأمي المبعوث إلى أمة أميين؛ مثل من جاءه نعته فيها وعلمه ثم لم يؤمن به مثل الحمار، وفي الآية دليل على سوء حال العالم الذي لا يعمل بعلمه، وتخصيص الحمار بالتشبيه به لأنه كالعلم في الجهل، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

ذوامل للأسفار لا علم عندهم *** بجيدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدا *** بأوساقه أوراح ما في الغرائر

بناءاً على نقل عن ابن خالويه أن البعير اسم من أسماء الحمار كالجمل البازل، وقرأ يحيى بن يعمر‏.‏ وزيد بن علي ‏{‏حُمّلُواْ‏}‏ مبنياً للفاعل، وقرأ عبد الله حمار بالتنكير، وقرىء ‏{‏يَحْمِلُ‏}‏ بشد الميم مبنياً للمفعول‏.‏

‏{‏بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله‏}‏ أي بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا فحذف المضاف وهو المخصوص بالذم وأقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ صفة القوم، والمخصوص محذوف أي بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله هو، والضمير راجع إلى ‏{‏مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة‏}‏، وظاهر كلام الكشاف أن المخصوص هو ‏{‏مَثَلُ‏}‏ المذكور، والفاعل مستتر يفسره تمييز محذوف، والتقدير بئس مثلاً مثل القوم الخ، وتعقب بأن سيبويه نص على أن التمييز الذي يفسر الضمير المستتر في باب نعم لا يجوز حذفه ولو سلم جوازه فهو قليل، وأجيب بأن ذاك تقرير لحاصل المعنى وهو أقرب لاعتبار الوجه الأول، وكان قول ابن عطية التقدير بئس المثل مثل القوم من ذلك الباب، وإلا ففيه حذف الفاعل، وقد قالوا بعدم جوازه إلا في مواضع ليس هذا منها ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ أي الواضعين للتكذيب في موضع التصديق، أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بسبب التكذيب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ ياأهل أَيُّهَا الذين هَادُواْ‏}‏ أي تهودوا أي صاروا يهوداً ‏{‏إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ‏}‏ أي أحباء له سبحانه ولم يضف أولياء إليه تعالى كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62‏]‏ قال الطيبي‏:‏ ليؤذن بالفرق بين مدعي الولاية ومن يخصه عز وجل بها ‏{‏مّن دُونِ الناس‏}‏ حال من الضمير الراع إلى اسم ‏{‏ءانٍ‏}‏ أي متجاوزين عن الناس ‏{‏فَتَمَنَّوُاْ الموت‏}‏ أي فتمنوا من الله تعالى أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين في زعمكم واثقين بأنه حق فتمنوا الموت فإن من أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها من هذه الدار التي هي قرارة الإنكاد والأكدار، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك إظهاراً لكذبهم فإنهم كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ ويدّعون أن الآخرة لهم عند الله خالصة ويقولون‏:‏ ‏{‏لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏ وروى أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبت يهود المدينة ليهود خيبر‏:‏ إن اتبعتم محمداً أطعناه وإن خالفتموه خالفناه، فقالوا نحن أبناء خليل الرحمن ومنا عزيز ابن الله والأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من من محمد ولا سبيل إلى اتباعه فنزلت ‏{‏قُلْ ياأهل أَيُّهَا الذين هَادُواْ‏}‏ الآية، واستعمال ‏{‏ءانٍ‏}‏ التي للشك مع الزعم وهو محقق للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجزم به لوجود ما يكذبه‏.‏

وقرأ ابن يعمر‏.‏ وابن أبي إسحق‏.‏ وابن السميقع ‏{‏فَتَمَنَّوُاْ الموت‏}‏ بكسر الواو تشبيهاً بـ ‏{‏لو استطعنا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 42‏]‏، وعن ابن السميقع أيضاً فتحها، وحكى الكسائي عن بعض الأعراض أنه قرأ بالهمزة مضمومة بدل الواو‏.‏